الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (5- 10): {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى} أي كان ذا ثروة وغنى {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي تعرض له، وتصغى لكلامه. والتصدي: الإصغاء، قال الراعي:وأصله تتصدد من الصد، وهو ما استقبلك، وصار قبالتك، يقال: داري صدد داره أي قبالتها، نصب على الظرف.وقيل: من الصدي وهو العطش. أي تتعرض له كما يتعرض العطشان للماء، والمصاداة: المعارضة. وقراءة العامة {تصدى} بالتخفيف، على طرح التاء الثانية تخفيفا. وقرأ نافع وابن محيصن بالتشديد على الإدغام. {وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أي لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ. قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى} يطلب العلم لله {وَهُوَ يَخْشى} أي يخاف الله. {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره. وأصله تتلهى، يقال: لهيت عن الشيء ألهى: أي تشاغلت عنه. والتلهي: التغافل. ولهيت عنه وتليت: بمعنى. .تفسير الآيات (11- 16): {كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)}قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ} كَلَّا كلمة ردع وزجر، أي ما الامر كما تفعل مع الفريقين، أي لا تفعل بعدها مثلها: من إقبالك على الغني، وإعراضك عن المؤمن الفقير. والذي جرى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ترك الأولى كما تقدم، ولو حمل على صغيرة لم يبعد، قاله القشيري. والوقف على كَلَّا على هذا الوجه: جائز. ويجوز أن تقف على تَلَهَّى ثم تبتدئ كَلَّا على معنى حقا. إِنَّها أي السورة أو آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي موعظة وتبصرة للخلق {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} أي اتعظ بالقرآن. قال الجرجاني: إِنَّها أي القرآن، والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة، أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز، كما قال تعالى في موضع آخر: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. ويدل على أنه أراد القرآن قوله: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير، لان التذكرة في معنى الذكر والوعظ.وروى الضحاك عن ابن عباس في قول تعالى: {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} قال من شاء الله تبارك وتعالى ألهمه. ثم أخبر عن جلالته فقال: {فِي صُحُفٍ} جمع صحيفة {مُكَرَّمَةٍ} أي عند الله، قاله السدي. الطبري: {مُكَرَّمَةٍ} في الدين لما فيها من العلم والحكم.وقيل: {مُكَرَّمَةٍ} لأنها نزل بها كرام الحفظة، أو لأنها نازلة من اللوح المحفوظ.وقيل: {مُكَرَّمَةٍ} لأنها نزلت من كريم، لان كرامة الكتاب من كرامة صاحبه.وقيل: المراد كتب الأنبياء، دليله: {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى} [الأعلى: 19- 18]. {مَرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر عند الله.وقيل: مرفوعة عنده تبارك وتعالى.وقيل: مرفوعة في السماء السابعة، قاله يحيى بن سلام. الطبري: مرفوعة الذكر والقدر.وقيل: مرفوعة عن الشبه والتناقض. مُطَهَّرَةٍ قال الحسن: من كل دنس.وقيل: مصانة عن أن ينالها الكفار. وهو معنى قول السدي. وعن الحسن أيضا: مطهرة من أن تنزل على المشركين.وقيل: أي القرآن أثبت للملائكة في صحف يقرءونها فهي مكرمة مرفوعة مطهرة. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله، فهم بررة لم يتدنسوا بمعصية.وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مطهرة تجعل التطهير لمن حملها بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال: كتبة. وقاله مجاهد أيضا. وهم الملائكة الكرام الكاتبون لاعمال العباد في الاسفار، التي هي الكتب، واحدهم: سافر، كقولك: كاتب وكتبة. ويقال: سفرت أي كتبت، والكتاب: هو السفر، وجمعه أسفار. قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر، بكسر السين، وللكاتب سافر، لان معناه أنه يبين الشيء ويوضحه. يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء، وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. قال: ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم. وقاله الفراء، وأنشد:والسفير: الرسول والمصلح بين القوم والجمع: سفراء، مثل فقيه وفقهاء. ويقال للوراقين سفراء، بلغة العبرانية.وقال قتادة: السفرة هنا: هم القراء، لأنهم يقرءون الاسفار. وعنه أيضا كقول ابن عباس.وقال وهب بن منبه: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ هم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن العربي: لقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. وروي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران» متفق عليه، واللفظ للبخاري. كِرامٍ أي كرام على ربهم، قاله الكلبي. الحسن: كرام عن المعاصي، فهم يرفعون أنفسهم عنها.وروى الضحاك عن ابن عباس في كِرامٍ قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته، أو تبرز لغائطه.وقيل: أي يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. بَرَرَةٍ جمع بار مثل كافر وكفرة، وساحر وسحرة، وفاجر وفجرة، يقال: بر وبار إذا كان أهلا للصدق، ومنه بر فلان في يمينة: أي صدق، وفلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه، فمعنى بَرَرَةٍ مطيعون لله، صادقون لله في أعمالهم. وقد مضى في سورة الواقعة قولة تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79- 77] أنهم الكرام البررة في هذه السورة. .تفسير الآيات (17- 23): {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)}قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ}؟ قُتِلَ أي لعن.وقيل: عذب. والإنسان الكافر. روى الأعمش عن مجاهد قال: ما كان في القرآن قُتِلَ الْإِنْسانُ فإنما عني به الكافر.وروى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت {والنجم} ارتد، وقال: أمنت بالقرآن كله إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة» فخرج من فوره بتجارة إلى الشام، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه في وسط الرفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرحال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان.وروى أبو صالح عن ابن عباس ما أَكْفَرَهُ: أي شيء أكفره؟ وقيل: ما تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا: قاتله الله ما أحسنه! وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا.وقيل: ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا، قال ابن جريج: أي ما أشد كفره! وقيل: ما استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر، فهو استفهام توبيخ. وما تحتمل التعجب، وتحتمل معنى أي، فتكون استفهاما. {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر فيتكبر؟ أي أعجبوا لخلقه. مِنْ نُطْفَةٍ أي من ماء يسير مهين جماد خَلَقَهُ فلم يغلط في نفسه؟! قال الحسن: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين. فَقَدَّرَهُ في بطن أمه. كذا روى الضحاك عن ابن عباس: أي قدر يديه ورجليه وعينيه وسائر آرابه، وحسنا ودميما، وقصيرا وطويلا، وشقيا وسعيدا.وقيل: فَقَدَّرَهُ أي فسواه كما قال: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. وقال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ.وقيل: فَقَدَّرَهُ أطوارا أي من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أن تم خلقه. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قال ابن عباس في رواية عطاء وقتادة والسدي ومقاتل: يسره للخروج من بطن أمه. مجاهد: يسره لطريق الخير والشر، أي بين له ذلك. دليله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. وقاله الحسن وعطاء وابن عباس أيضا في رواية أبي صالح عنه. وعن مجاهد أيضا قال: سبيل الشقاء والسعادة. ابن زيد: سبيل الإسلام.وقال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه، دليله قوله عليه السلام: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له». {ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعل له قبرا يواري فيه إكراما، ولم يجعله مما يلقي على وجه الأرض تأكله الطير والعوافي، قاله الفراء.وقال أبو عبيدة: فَأَقْبَرَهُ: جعل له قبرا، وأمر أن يقبر. قال أبو عبيدة: ولما قتل عمر بن هبيرة صالح بن عبد الرحمن، قالت بنو تميم ودخلوا عليه: أقبرنا صالحا، فقال: دونكموه. وقال: فَأَقْبَرَهُ ولم يقل قبره، لان القابر هو الدافن بيده، قال الأعشى:يقال: قبرت الميت: إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيره بحيث يقبر، وجعل له قبرا، تقول العرب: بترت ذنب البعير، وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله، وطردت فلانا، والله أطرده، أي صيره طريدا. {ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ} أي أحياه بعد موته. وقراءة العامة {أنشره} بالألف.وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب بن أبي حمزة شاء نشره بغير ألف، لغتان فصيحتان بمعنى، يقال: أنشر الله الميت ونشره، قال الأعشى: قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} قال مجاهد وقتادة: لَمَّا يَقْضِ: لا يقضى أحد ما أمر به. وكان ابن عباس يقول: لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لم يف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم. ثم قيل: كَلَّا ردع وزجر، أي ليس الامر: كما يقول الكافر، فإن الكافر إذا أخبر بالنشور قال: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [فصلت: 50] ربما يقول قد قضيت ما أمرت به. فقال: كلا لم يقض شيئا بل هو كافر بي وبرسولي.وقال الحسن: أي حقا لم يقض: أي لم يعمل بما أمر به. ولَمَّا في قوله: لَمَّا عماد للكلام، كقول تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} [المؤمنون: 40].وقال الامام ابن فورك: أي: كلا لما يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الايمان، بل أمره بما لم يقض له. ابن الأنباري: الوقف على كَلَّا قبيح، والوقف على أَمَرَهُ وأَنْشَرَهُ جيد، ف- كَلَّا على هذا بمعنى حقا. .تفسير الآيات (24- 32): {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)}قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ} لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان ذكر ما يسر من رزقه، أي فلينظر كيف خلق الله طعامه. وهذا النظر نظر القلب بالفكر، أي ليتدبر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد.وروى عن الحسن ومجاهد قالا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي إلى مدخله ومخرجه.وروى ابن أبي خيثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ضحاك ما طعامك قلت: يا رسول الله! اللحم واللبن، قال: ثم يصير إلى ماذا؟ قلت إلى ما قد علمته، قال: فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا».وقال أبي بن كعب: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير».وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر ما بخلت به إلى ما صار؟قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا} قراءة العامة {إناء} بالكسر، على الاستئناف، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب {أَنَّا} بفتح الهمزة، ف- أَنَّا في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه، كأنه قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى أَنَّا صَبَبْنَا فلا يحسن الوقف على طَعامِهِ من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت أَنَّا بإضمار هو أنا صببنا، لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام.وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي {أني} ممال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على طَعامِهِ تام. ويقال: معنى {أنى} أين، إلا أن فيها كناية عن الوجوه، وتأويلها: من أي وجه صببنا الماء، قال الكميت:صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا: يعني الغيث والأمطار. {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا}: أي بالنبات {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا} أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يحصد ويدخر {وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت والعلف، عن الحسن: سمى بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب: واهل مكة يسمون القت القضب.وقال ابن عباس: هو الرطب لأنه يقضب من النخل: ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا: أنه الفصفصة وهو القت الرطب.وقال الخليل: القضب الفصفصة الرطبة.وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قت. قال: والقضب: اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال: قضبا، يعني جميع ما يقضب، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها.وفي الصحاح: والقضبة والقضب الرطبة، وهي الاسفست بالفارسية، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. وَزَيْتُوناً وهي شجرة الزيتون وَنَخْلًا يعني النخيل وَحَدائِقَ أي بساتين واحدها حديقة. قال الكلبي: وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. غُلْباً عظاما شجرها، يقال: شجرة غلباء، ويقال للأسد: الأغلب، لأنه مصمت العنق، لا يلتفت إلا جميعا، قال العجاج: ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب فاستعير، قال قال عمرو بن معدي كرب: وحديقة غلباء: ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب: بلغ والتف البعض بالبعض. قال ابن عباس: الغلب: جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد: الغلب: النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة: عظام الأوساط والجذوع. مجاهد: ملتفة. وَفاكِهَةً أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما وَأَبًّا هو ما تأكله البهائم من العشب، قال ابن عباس والحسن: الأب: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحصيد، ومنه قول الشاعر في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقيل: إنما سمي أبا، لأنه يؤب أي يؤم وينتجع. والأب والام: أخوان، قال: وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين: هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال: الأب: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام.وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة: الأب: الثمار الرطبة.وقال الضحاك: هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا، قال الشاعر: الكلبي: هو كل نبات سوى الفاكهة.وقيل: الفاكهة: رطب الثمار، والأب يابسها.وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أي سماء تظلني وأى أرض تقلني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم.وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبع». وإنما أراد بقوله: «خلقتم من سبع» يعني {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] الآية، والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً} إلى قوله: {وَفاكِهَةً} ثم قال: {وَأَبًّا} وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. مَتاعاً لَكُمْ نصب على المصدر المؤكد، لان إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دثوره، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضا.
|